السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف حالكم احبتي في الله
اليوم موعدنا مع ام الزوجة الخامسة من زوجات الرسول صلوات ربي وسلامه عليه وهي زينب بنت جحش رضي الله عنها
خُطبة زينب بنت جحش - رضي الله عنها -:
خطَب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينبَ بنت جحشٍ لمولاه زيدِ بن حارثة، ولكنَّها رفضتْ وأبَتْ لكونه لا يُماثلها شرفًا ولا حَسبًا؛ هي القُرشيَّة وهو المولَى، وساندَها في رَفضِها أخوها عبدُالله بن جحش.
ومِثل هذا الزواج في ذلك الوقت يُعدُّ ضربًا مِن الخيال؛ بسببِ التقاليد والأعراف التي قامَ عليها المجتمعُ العربيُّ قبل الإسلام، أراد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تغييرَ كلِّ العادات والتقاليد التي لا تَنسجِم مع رُوح الإسلام ورِسالتِه السامية، فعزَم على تزويجِ ابنةِ عمَّته مِن مولاه زيد؛ ليحطِّمَ بذلك الزواجِ كلَّ الفوارق الطبقيَّة في المجتمع، ويجعلهم سواسيةً كأسنان المُشْط، ويُعلِّمهم بالطريق العمَلي أنَّ النسب والشَّرَف لم يعُدْ أساسًا للمفاضلة، وإنَّما المفاضلة بالتقوى وَفق قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
فعندما رَفضتْ زينبُ هذا الزواجَ أنْزَل الله قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]؛ قال ابنُ كثير: "إنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - انطلَق ليخطبَ على فتاة زيدِ بنِ حارثة - رضي الله عنه - فدَخَل على زينبَ بنتِ جحش الأسديَّة - رضي الله عنها - فخَطَبها، فقالت: لستُ بناكحتِه، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بلَى فأنكحيه))، قالت: يا رَسولَ الله: أؤامِر نفْسي؟ فبينما هما يتحدَّثانِ أنزلَ الله هذه الآيةَ على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، قالت: رضيتُه لي يا رسولَ الله منكحًا".
ومعنى الآية: هو التسليم والخُضوع لقضاءِ الله ورَسولِه، وأنَّ عصيان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو عصيانُ الله؛ فليس لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ أن يختاروا مِن الأمورِ ما يَشاؤون، بل يجب أن يكونَ اختيارهم تبعًا لما اختارَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعندَها قالت زينبُ وأخوها: رَضينا يا رسولَ الله.
شكوى زيد:
"حدَّثَنا محمَّد بنُ سليمانَ عن حمَّاد بن زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: جاءَ زيدٌ يَشكُو امرأتَه إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمَرَه أن يُمسِكها، فأنزل الله: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ [الأحزاب: 37].
ظلَّتْ زينب تفْخَر على زيد بعدَ زواجها منه بشرفِها وحسبِها، وأنَّها القرشية وهو المولَى وعانَى زيدٌ مِن ذلك، وفشِل في إقامة أُسرة مستقرَّة هادِئة فبَدأ يشكو منها، وبدَا أنَّ حياتَهما لا يُمكن أن تستمرَّ طويلاً، وبعدَ أن أبطَل الله نظامَ التبنِّي وأحكامَه، أراد الله - جلَّ وعلا - أن يُلغي كلَّ الأعراف والتقاليد التي قامتْ على ذلك النِّظام، فاقتضتِ الحكمةُ الإلهية أنْ يتزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينبَ بنت جحْش ليلغي بذلك البنوَّة غير الحقيقيَّة مِن حياةِ الناس، فأخْبر الله نبيَّه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنَّ زيدًا سيُطلِّق (زينب)، وأنَّها ستكون زوجته ليزيل بذلك آثارَ نِظام التبني، فيتزوَّج مِن مُطلَّقة متبنَّاه زيد بن حارثة، ويواجه المجتمعَ بذلك، ولا يُمكن لأحدٍ غيرِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يقومَ بذلك في ذلك الوقتِ؛ لعُمق آثار التبنِّي في حياةِ الناس، الأمْر الذي أحدث ضجةً عظيمةً في حينه، ونفَذ المنافقون مِن خلاله فقالوا: إنَّ محمدًا تزوَّج حليلةَ ابنه، وهو المعصومُ مِن الله! فكيف لو أنَّ غيرَه قام بذلك العمل؟! بل ما زال أعداءُ الإسلام يُلفِّقون حولَ هذا الزواج الأساطير.
ولَمَّا شكَا زيدٌ لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينبَ قال له رسولُ الله: أمْسِك عليك زوجَك، وهو يَعلم - عليه السلام - عن طريق الوحي أنَّه سيُطلِّقها ويتزوَّجها هو، فأنزل الله قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]، فالذي (أَنْعَم الله عليه) هو زيدُ بن حارثةَ؛ إذ أنْعَم الله عليه بالإسلامِ، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)، وذلك بعِتْقه مِن العبودية، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) هو ما قالَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لزيدٍ عندما جاءَ يَشْكو منها ويُريد تطليقَها، فقال له: لا تُطلِّقها ضرارًا وتَعلُّلاً بتكبُّرها واشتدادِ لسانِها عليك، (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ)؛ أي: إنَّ الله أعْلمك أنَّ زيدًا سيُطلِّقها وأنك ستتزوَّجها؛ فلماذا تقول له: أمْسِك عليكَ زوجَك؟! وهذا عتابٌ مِن الله لرسولِه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - تقول له ذلك، والأولى أن تصمُتَ وتتركه يُطلِّقها، ولكنَّ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَل ما يَجِب عليه مِن الأمْر بالمعروف.
يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: "وهذا التفسيرُ للآية هو الذي يَجِب المصيرُ إليه، وما قيل خلافه غيرُ صحيح؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ الله تعالى سيُظهر ما كان يُخفيه في نفْسِه مِن أنَّها ستكون زوجةً له بعدَ أن يُطلِّقها زيد، وهذا هو الذي أظْهَره الله وأوْقَعه، وهو تزويجها منه - صلَّى الله عليه وسلَّم".
فلو كان الذي أخْفاه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأضْمَره ذلك الحبُّ الذي زعَمه بعضُ المؤرِّخين والمفسِّرين لأظهرَه الله تعالى؛ لأنَّه لا يجوز أن يُخبر الله تعالى أنَّه سيُظهره، ثم يَكتُمه ولا يظهره، وفي ذلك يقول الشنقيطيُّ: "وهذا هو التحقيقُ في معنى الآية الذي دلَّ عليه القرآنُ وهو اللائِق بجنابِه - صلَّى الله عليه وسلَّم".
﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾؛ أي: تخاف وتستحي أن تقولَ لزيد: طلِّقها عندما أراد طلاقَها حتى تتزوَّجها، كما أعْلمك الله بذلك؛ خشيةً أو حياءً مِن قول الناس: إنَّ محمدًا تزوَّج حليلةَ ابنه، والله وحْده أحقُّ أن تخشاه في كلِّ أمر تفعلُه.
رُويَ عن أمِّ المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - أنَّها قالت: "لو كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُخفي شيئًا مما أنْزَله الله عليه لأخفَى هذه الآية"، ولكن حاشاه في ذلك فقدْ بَلَّغَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلَّ ما أنزله الله عليه حتى ما فيه عتابٌ له.
زَواج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينب:
قال - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]؛ أي: لما قضَى زيدُ بن حارثة حاجتَه مِن زينبَ بنت جَحْش وفارَقها، وبانتْ منه زوجناكها، وكان الذي وَلِيَ تزويجها منه هو الله بمعنى أنَّه أوْحَى إليه أن يدخُل عليها بلا وليٍّ ولا عقْد ولا مهْر ولا شهود مِن البشر؛ روى مسلم عن أنس بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -: "لَمَّا انقضتْ عِدَّة زينبَ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لزيدٍ (فاذْكُرها عليَّ)، قال: فانطلق حتى آتاها وهي تُخمِّر عجينَها قال: فلمَّا رأيتُها عظُمتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظُر إليها أنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَرها فوليتُها ظهري ونكصتُ على عقِبي، فقلتُ: يا زينبُ، أرسل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَذكُرك، قالت: ما أنا بصانعةٍ شيئًا حتى أوامِر ربِّي، فقامتْ إلى مسجدِها ونزَل القرآنُ، وجاءَ رسولُ الله فدخَل عليها بغير إذنٍ...".
وفي ذلك يقولُ البخاريُّ عن أنس بن مالك أنَّه قال: "إنَّ زينبَ بنتَ جحشٍ كانت تَفخَر على أزواجِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتقول: زوَّجكن أهاليكُنَّ، وزوَّجني اللهُ تعالى مِن فوقِ سبعِ سموات".
ثم قصَّ اللهُ تعالى علينا سببَ ذلك الزواج وعِلَّته، وهو رفْع الحرَج والمشقَّة عن المؤمنين إذا أرادوا الزواجَ مِن أزواج أدعيائهم؛ أي: مَن جعلوهم أبناء لهم وهم ليسوا بأبنائِهم، إذا فارقوهنَّ بموتٍ أو طلاقٍ، وانتهتْ عدتهنَّ، ولهم في رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُسوةٌ حسَنة.